قراءة في شارع بسادة
عن الموت والجمال والحب المثلى،
بين فينسيا وشارع بسادة –
قراءة: محمد عبد النبى
هناك جسور خفية تمتد بين بعض الأعمال الأدبية، المكتوبة فى أماكن وأزمنة متباينة، فى لعبة من ألعاب بيت المرايا، دون أن تحيل بالضرورة إلى جدلية التأثير والتأثر بصيغتها المباشرة، بل هى جسور تكاد لا توجد إلا فى ذهن قارئ ما فى إطار فعل قراءة محدد، أى أن مسئولية هذه العلاقات الخفية تقع فى أغلب الأحيان على عاتق القارئ وحده. هذا المستهل غرضه الأساسى إعلان مسئوليتى الكاملة عن الربط ما بين نوفيلا سيد الوكيل الصادرة مؤخرا عن دار الناشر، بعنوان شارع بسادة، أو بين بعض خيوطها على وجه التحديد، وبين أجواء الموت فى فينسيا لتوماس مان. ينتمى العملان إلى نوع أدبى واحد هو النوفيلا، وهى مصادفة لا دخل لها بالجسور التى أتخيلها هنا إلا قليلا، والنوفيلا حالة سردية وسطى ما بين القصة والرواية، وغالبا ما يشار لهذين الطرفين عند تعريفها، وأحيانا ما تعرف بعدد كلماتها، الذى يترواح من 10 آلاف إلى 70 ألف كلمة، لتمييزها عن الرواية، أختها الكبرى، والقصة الابنة الصغرى، لكن هذه التعريفات أيضا تولى اهتمامها لمسألة الصراع والحبكات، فتشير لاحتواء النوفيلا على عدد أقل من الصراعات مما تحتويه الرواية، ولكن على نحو أكثر تعقيدا من القصة القصيرة. حرص سيد الوكيل على الإشارة إلى كتابه السردى الأحدث شارع بسادة بوصفه نوفيلا، رغم توفر هذا الشكل فى سردنا الحديث عند أسماء كبيرة مثل يحى حقى وعبد الحكيم قاسم، دون إشارة واضحة لمسماه، ومع هذا فإن الوكيل يميل لكسر حدود النوفيلا، بصيغتها التقليدية، من ناحيتين، أولا كل فصل (فقرة أو قطعة سردية) من فصول كتابه له عنوانه الخاص ويمكن قراءته منفصلا والتعامل معه باعتباره وحدة سردية مستقلة، دون مشقة أو ابتسار، وبعض تلك الفقرات تم نشره فى نص سابق للكاتب، فى أول مجموعته القصصية مثل واحد آخر، وظهرت فى شارع بسادة دون تغييرات ذات شأن. الأمر الثاني – ولعله يرتبط من بعيد بمسألة الوحدات السردية المتصلة المنفصلة – هو أن النوفيلا في صيغتها التقليدية لا تلتفت لحكبات أو صراعات ثانوية فرعية، بل تمسك بخيط واحد أساسا لا تفلته إلى النهاية، وهو ما تحقق بصرامة فى نوفيلا توماس مان الموت في فينسيا. أما شارع بسادة فتقوم عن عمد بإفلات هذا الخيط الواحد، بل لا تمسك به من البداية، وربما من الفصل الأول للنوفيلا، مشهد محطة القطار، حيث يقدم لنا الرواى شخصيات تمر بالسرد مرور الكرام، رغم أنها واعدة، وهؤلاء أغلبهم من الغرباء ليسوا من السكان الأصليين للبلدة، ولا يستعيدهم السرد فى ثنايا اللوحات والفصول التالية بالمرة، وبعد ذلك تقدم شارع بسادة مجموعة لوحاتها أو حكاياتها الصغيرة التى يمكن اعتبارها جميعا، حبكات ثانوية وفرعية. هى دوائر متواشجة، يضمها إطار مكانى وزمنى موحد، تغلفها الحالة اللغوية نفسها، كل هذا صحيح، لكن أيا منها لا يقدم نفسه بوصفه صاحب الثقل المركزى بينها، منطلقا مفترضا لبقية الخيوط والحالات. وكأن هذا الانزياح الجزئى عن حدود النوفيلا إلى حدود المتتالية القصصية، دون التورط كذلك فى معضلات بنية العالم الروائى باحتمالاته المتنوعة، يتم نشدانا لحرية الشكل وللتمويه على أى دلالة مركزية قد تنتج عن قراءة متسرعة، إلا إذا انحازت هذه القراءة أو تلك، عن وعى وقصد، إلى تلك الحكاية دون الأخرى واصطنعتها منطلقا لرؤية كلية مفترضة للعمل. وهكذا فهناك الكثير مما قيل ويمكن قوله حول شارع بسادة، بناء على تلك الخيوط المتناثرة، نسكت عنه عامدين هنا، كما نسكت عما يمكن قوله حول مغامرتها اللغوية، ومدارها نقل التجربة الحسية الحية بلغة لا تخجل من شعريتها الخاصة، ولا تكتفى بالوقوف باردة محايدة إزاء التجربة... ننحى هذا كله جانبا لصالح التريث أمام خيط الحب المثلى الذى طرحه العمل، وذلك أساسا لندرة الأعمال الأدبية المصرية الجديدة التى تتناول مسألة الميل الجنسى المثلى، دون ابتذال أو تسطيح، ودون أن يضطر المؤلف لقتل النموذج "الشاذ" فى نهاية العمل (حاتم رشيد نموذجا – عمارة يعقوبيان) إذعانا – ربما – لقانون العدالة الشعرية: الآثم نهايته بشعة، أو مغازلةً – ربما – لوعى ما نسميه برجل الشارع العادى: الآثم نهايته بشعة كذلك. وهنا تلتقى نوفيلا شارع بسادة – على الجسر الذى تتخيله هذه القراءة – بنوفيلا الموت فى فينسيا التى نكتفي بوضعها فقط في خلفية المشهد كمجرعية هامة، لأهمية ما طرحته – جماليا ومعرفيا – من هواجس وتأملات حول الحب المثلى، ليس فقط باعتباره ذلك النزوع الآثم والمدان من قبل الأديان والأعراف والأخلاق، ولكن أساسا باعتباره دراما إنسانية، يغزل خيوطها الموت عند قدمى المعبود، وفقدان الأمل فى تحقق الرغبة، وضعف أدوات الفن إزاء اكتمال الجمال البشري الحي. هواجس الموت والجمال تلك تتناثر أيضا فى جنبات شارع بسادة، على طريقتها الخاصة. في فبراير من العام 1907 نشر الروائي الفرنسي مارسيل بروست مقالا بعنوان "عواطف ولد يريد قتل أمه"، مستوحيا مقاله من حياة صديقه هنري فان بلارنبرج، والذي أقدم بالفعل على قتل أمه التى يحبها ثم انتحر. ورأى بروست فى هذا الحادث دليلا على الحب، ووصف عملية قتل الابن لأمه بأنه عمل يكاد يكون جميلا. واختتم بروست مقاله كالتالي: "وودتُ أن أبين كيف أن تفجر اللوثة وسفك الدماء قد حدثا في جو من الجمال الأخلاقي الذي يجمع بين النقاء والدين. ورغم هذا فإن الدماء المسفوكة لم تنجح في تلطيخ هذا الجمال." كأن بروست يرى هنا أيضا جسرا خفيا معلقا بين الموت (وهو هنا قتل، للأم) وبين الجمال، وكأن القتل هو الحد الأقصى لفعل الحب، وهى فكرة لا يصعب أن نجدها، حتى فى أدبيات الحب والغرام الأشد سوقية وابتذالا، غير أن ارتباطها هنا بعشق الأم والرغبة فى التحرر من هذا العشق هو ما يضعها فى إطار مغاير. وللأم كمنوذج أول – وربما متوحش – للجمال حضور خاص فى واحد من أهم وحدات السرد بشارع بسادة، إنه الولد الذى يرسم الوجوه في حجرة مهجورة، كان مرصودا للعشق، وممسوسا بالجمال... وهذا هو عنوان هذه الوحدة السردية. هذا الولد الذى أتى إلى شارع بسادة، حيث سيعيش مع جدته، بصحبة أمه التى سرعان ما تتركه هناك، وتظل حاضرة رغم ذلك، فلا يكاد يتسع هذا الفصل الصغير إلا لها، ولتأمل مشهدها الفاتن، بعينى الولد، وهو نفسه الذى يطارده الصغار، قائلين: "ابن الحلوة أهه"، وكأنهم – بتعليق السارد- يحررون أنفسهم من الموت، أما سؤال الولد فكان: فمن يحرر نفسه من الجمال؟ ما الذى يجعل هذا الولد يرسم صورا لناس وملائكة وشياطين ويطمع أن ينفخ فيهم الله من روحه؟ وهل لما يرسمه هذا الولد علاقة بكل من يجمعهم شارع بسادة من ناس وملائكة وشياطين؟ ألا يمكن لقراءة منحازة لهذا الخيط عما عداه أن ترى في هذا الولد البدين الخجول صورة مصغرة لصانع العالم كله من أوله لآخره، يقول: "فيما بعد سيتعلم كيف يكتب ذلك على الورق" متحدثا عن لحظات الاشتهاء الأولى، ذكرته بها امرأة يقابلها فى جنازة أمه. سؤال الفن شىء آخر، إنه يكافح، مستنفدا كل حيلة، للإمساك بالجمال، ذلك الهش، والعابر وسريع الزوال. الولد البدين الخجول يرسم شوارع وبيوت ويجعل ناسا يسكنوها، فإذا أعجبت الله، كما أسر له الملاك، سيمنحها أرواحا ملونة. يرسم أمه، ولدى موتها أشرف بنفسه على وضع اللمسات الأخيرة في لوحته الأولى. وكأن ميزان الموت والجمال هنا تتأرجح على جانبيه كفتان، تعلو هذه لتهبط أختها، فى رقصة متوازنة وعجيبة. ولكن الفن لا ييأس من المحاولة، إذ يأتى سقوط الكاتب جوستاف فون آشنباخ، الذى يطارد تاجيو، الفتى البولندى على شاطئ منتجع فى فينيسا أوائل القرن العشرين، دون كلمة أو إشارة، غير "أحبك" واحدة يتيمة أسر بها إلى نفسه وهو يكاد يموت خجلا وتعبا. يطارده وكأنه شبح يتقدمه على الدوام، ويروغ منه فى المنعطفات مع أسرته، سرب إناث صامتات مثل راهبات متشابهات، ومع ذلك لا ييأس فون آشنباخ، يظل يحاول، فقد : "أصبح فجأة راغبا فى إضاءته بنور كلماته، اتجهت رغبته فى شوق إلى التعبير عن الحالة الراهنة لتاجيو، بالكتابة عن بنية الغلام واتخاذها مادة لعمله، وسيتابع بأسلوبه خطوط هذا الجسد الذى يبدو له ربانيا، وسينظر فى جماله بطريقة عقلانية" وظلت محاولته تلك نوعا من المرواغة أمام المكتوب، لا في صفحة الكتاب، ولكن على صفحة العالم المادي، نوعا من المقاومة اليائسة، التشبث الأخير بحيل الفن ورصانة الفكر. فكاتبنا الجليل لن يتتبع خطوط جسد الولد بأصابعه، كما سيكشف له عن ذلك حلم مقتضب ومشوش قبل موته بساعات، ولكن بأسلوبه، وكأنه يرجئ بهذا الموت، يعانده، موته هو وقد صار شيخا هرما، ولم تفلح لمسات الزينة أو الصبغة التى وضعها له الحلاق أن تخفي آثار الزمن، وموت الولد – أو على الأقل تغيره – رغم أنه جماله نفسه مهدد، إذ يبدو عليه شحوب المرض طوال الوقت. هشاشة الجمال وظل الموت المخيم عليه دائما، معان من السهل تتبعها فى الخيوط السردية الأخرى بشارع بسادة، حتى بعيدا عن الولد البدين الخجول، صانع العالم ومكتشف الأسرار. هذه الهشاشة نلمحها أيضا عند تأمل شخصية حسونة، الحسون، عصفور الحقول الشارد بحثا عن رزقه الشحيح من الملاليم ومن الحب كذلك، بائع سريح فى زحام الأسواق بين الفلاحين، رافعا ذيل جلبابه كاشفا عن مؤخرته بلا خجل، على هامش الهامش، بلا أهل أو سند. عصفور الحقول حسونة، يرفض الموت، على طريقته، وكأنه فى الحين نفسه يرفض الحب كذلك، الحب المعمر، الحب طويل الأجل، حب البيوت أو حتى أوكار المتعة السرية. وهو يرفض الموت حين يتجنب الذهاب بمن يصطادهم من الشباب العابرين إلى المقابر، ذلك أن حارس الجبانات هناك، يعرفه جيدا ولن يفوت تلك الفرصة، وهو – حسونة – مهما كان، يكره، أن تمس مؤخرته يد اعتادت أن تجوس فى جثث الموتى. وفى مقابل الأم، النموذج الأولى للجمال الوحشى عند الولد البدين الخجول أو الفتى تاجيو، لدى حسونة سيدة آلاجا، المومس القديمة، التى اكتفت الآن بنصبة شاى وقهوة، تستقبل تحت مظلة الخيش عشاقها القدامى، وتحنو هناك على حسونة. تبنته، شريطة أن يجرى على رزقه، وأن "يسترجل" شوية، وتروح تحكى له فى الأمسيات كثيرا من قصص العشق. مع حسونة، لا وجود للدراما الثقيلة التى تنتجها تناقضات مثل الحياة والموت والذكورة والأنوثة والشياطين والملائكة، وهى الثنائيات التى اعتمدتها نوفيلا شارع بسادة، لا لشئ إلا لتفككها وتتلاعب بها، وهو ما يظهر بوضوح لا مزيد عليه فى شخصية الحاج سمير وهدان، وهنا تبرز التناقضات وصار من الممكن بالتالى إنتاج الدراما. هناك – فى فينسيا – ثنائيات أخرى فاعلة بقوة، من ناحية شموخ الفكر وأنصاب الإرادة الإنسانية المتعالية، وعلى الطرف الآخر الشغف لحسى وتدفق الأهواء والغرائز الطليقة، ولم تكن معضلة الكاتب الكبير صاحب اللقب السامى فون آشنباخ سوى الاتكاء المبالغ فيه على أحد طرفى المعادلة، بعد أن قضى عمره كله متساميا، آخذا نفسه بالشدة، مكرسا نفسه لروتين عمله الصارم، محققا الصورة المثالية التى ينشدها القراء والمعجبون، والأهم أعضاء الأسرة الكبيرة التى ينتمى إليها، وهكذا وحين يعتصره الشغف فى قبضته، يقاوم مقاومة اليائس، ويعلن رغبته فى مغادرة فينسيا، ويحزم حقائبه، ويصل للمحطة التالية، وهناك كانت تنتظره مفاجأة صغيرة، حيث فقدت حقائبه وسافرت فى اتجاه آخر، وراح يبالغ فى إظهار نقمته وسخطه، مواريا الفرح المرتعش بداخله، يمكنه الآن أن يستسلم لقدره، يعود من جديد إلى فينسيا، إلى حيث يتمشى المعبود، تاجيو، على الشاطئ كل صباح، ويلعب مع أقرانه. سيعود، لكنه لن يستطيع العودة إلى صباه، رغم جهود المزين ورشات البودرة وأقلام الحواجب والصبغة، بوسعه على الأقل أن يموت، وقد سيطر الوباء على فينسيا، أمام الهيكل الفاتن للغلام، هناك، يبدو مظللا بالكامل أمام نور الشمس الغاربة فى الأفق... الاحتفال الأزلى بطاقة الحياة، واكتمال لوحة الجمال الحى وعنفوان الرغبة، كل هذا قادر على إخراس صوت الفكر والإرادة وطموحات الفن فى التقييد والتثبيت والخلود، الزوال جميل، والجميل زائل، ينكمش الفنان ويلملم أوراقه، ويأتون لحمله من مقعده على الشاطئ، بعد أن فقد العالم واحدا من أهم كتابه. جوستاف فون آشنباخ هو هنا أقرب إلى سمير وهدان، بطبيعة الحال، منه إلى حسونة، فالرغبة مقموعة بحكم تناقضات زرعتها المؤسسات الاجتماعية باختلاف ألوانها، وقيدت بها المنتمين إليها على اختلافهم، واختلاف أهوائهم وميولهم. لدى هذه المؤسسات الاجتماعية يوجد أبيض وأسود، ويوجد خير وشر، تماما كما يوجد الذكر والأنثى. ونتعرف على ميول سمير وهدان الجنسية، من خلال إطار أسطورى خرافى، يعتمده سمير نفسه – وربما النوفيلا كذلك – مسؤولية هذه الميول، وكأنه برئ منها، فأمه كانت تتمنى الولد بعد البنات، فلمس ولى صالح البذرة التى فى بطنها وجعل لها جسد ذكر فحل، لكن الولى الصالح ينسى أن يبدل الروح روحا أخرى، فبقيت روح الأنثى سجينة جسد الذكر. هنا نلحظ أيضا ثنائية الروح والجسد، وكأن سمير وهدان – بوعى أو بدون وعى – يستخدم ثنائيات رسخها المجتمع وسكنت من فجر التاريخ فى وعى الجماعة الإنسانية، وبدونها لا تنهض المؤسسة الاجتماعية الأقدم وهى الدين، يستخدم هذه الثنائيات نفسها، لكى يؤطر ميوله، يضعها فى حكاية أسطورية مثل الحكايات التى يعتمدها الدين وتحمل فى داخلها تاريخ الإنسان. حسونة خارج أسطورة الثنائيات، خارج المؤسسة الاجتماعية ولا تقدم له النوفيلا دراما خاصة به؛ رغم ما يوجد من إمكانيات حيث يسعى لرزقه الشحيح من الجنس مع مرتادى السوق، ممن لا يبخلون عليه بسيجارة، أو يشترون بقرش سودانى، مغامرين بفضيحة لو رآهم أحد معه، "وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة". باستسلام فون آشنباخ لشغفه يستسلم للموت، لأنه مستسلم حتى النخاع إلى أحكام المؤسسة الاجتماعية وقوانينها، لم يحدث الفتى بكلمة، وتتبع خيوط جسده بالكلمات على الورق، ولم يترك الزمام لانفعالاته الشبقية إلا فى حلم هو أقرب إلى الكابوس، واحتمى بالأساطير على الدوام فى تغزله الخاص ومناجاته السرية للفتى، واستعان – غير مرة – بعلاقة الفيلسوف الشيخ بالمتعلم الشاب عند الفلاسفة الإغريق، ومال للجنس العقلى المتمثل فى الحوار المنطقى وأسرار الوجود: "لم يسبق له أن وجد طعم الكلمات أكثر حلاوة مما هى عليه الآن، لم يعرف أبدا أن الحب يقيم فى داخل الكلمات على هذا النحو". سمير وهدان يشعر بأنه متهم فى قضية أمام الوجود كله، فلا يتوقف عن الدفاع عن نفسه – عن ميوله – لحظة واحدة، ولا يتحدث إلا بلسان المؤسسة، ثنائياتها وأساطيرها، ويؤكد مرة بعد أخرى على اختلافه عن حسونة، يخاطب على، الذى استطاع أن يمس الروح الأنثوية التى بداخله مخترقا حجاب الجسد الذكورى: "أنا يا على لست مثل حسونة..." ثم بعد قليل: "لا فرق عندك بينى وبين حسونة..." وأيضا: "هذه روحى يا على، روحى التى نسيتها يد مبارة فى جسدى الجميل فحولته إلى ثلاجة.. جسدى ثلاجة جميلة، تحفظ روحا لا تغنى سوى بين يديك، أنا عاشقك وقاتلك، وأنت دفء روحى المنسية... روح منسية مثل روحى لا يوقظها سوى حيوان مثلك فيه رطوبة الطين ورائحة سعف النخيل..." نعم، دفاع هو أقرب للشعر، يصر على الابتعاد عن نموذج حسونة، تماما كما اشمأز جوستاف فون آشنباخ من العجوز المتصابى ذى الشعر الأحمر على متن السفينة، لسكران مرافق الشباب، وكلاهما يستعين بتجليات المؤسسة الاجتماعية السامية لينأى بنفسه عن الابتذال، عن العار، عن الجنس بلا مشهيات ولا مقبلات، عن الجنس وفقط، كالحيوانات، إما بالفن، حيث يمكن للحب أن يقيم داخل الكلمات، وإما بالحب – الابن الأشهر للمؤسسات الاجتماعية، بجميع تجلياته الدينية والشعرية – حيث يمكن لرغبة سمير وهدان أن تتميز وتتسامى عن حسونة وأمثاله، من الحيوانات. حسونة لا يدافع عن نفسه، ليس متهما، هو خارج الحسابات أساسا، ولعله فعلا لا يفرق بين الأجساد التى تتناوب عليه، ولكننا نعرف على الأقل واحدا لم يستلم له حسونة، وهو حارس الجبانات، لأنه يكره الموت، لأنه يهيم على وجهه بين الأجساد والأشواق غير المشبعة، مهما أشبعناها. وفى اللحظة التى يهرب فيها حسونة من الموت نجد سمير وهدان يقتل عليا، وإن لم يقتله بيده، يكتفى بأن وشى بمعبوده لزوج المرأة التى نام معها، ودله على الأدلة والقرائن الدامغة، هذه هى نوعية الدراما التى تنتجها المؤسسات الاجتماعية، والنتيجة المتوقعة على الدوام من صراع وجدلية المتنافضات: يقتل صاحب الرغبة غير المتحققة فتاه الذى أشعل فيه الحرائق ولمس روحه الأنثوية، وتمسك الكوليرا بالطبقات التى تعفنت على شواطئ فينسيا، وقد فات الأوان للكاتب الكبير أن يعود عن مشوار عمره كله، فيتجمد مثل تمثال ملح أمام مشهد المعبود الحى، بعد أن رُفعت الأقلام وطويت الصحف.
بين فينسيا وشارع بسادة –
قراءة: محمد عبد النبى
هناك جسور خفية تمتد بين بعض الأعمال الأدبية، المكتوبة فى أماكن وأزمنة متباينة، فى لعبة من ألعاب بيت المرايا، دون أن تحيل بالضرورة إلى جدلية التأثير والتأثر بصيغتها المباشرة، بل هى جسور تكاد لا توجد إلا فى ذهن قارئ ما فى إطار فعل قراءة محدد، أى أن مسئولية هذه العلاقات الخفية تقع فى أغلب الأحيان على عاتق القارئ وحده. هذا المستهل غرضه الأساسى إعلان مسئوليتى الكاملة عن الربط ما بين نوفيلا سيد الوكيل الصادرة مؤخرا عن دار الناشر، بعنوان شارع بسادة، أو بين بعض خيوطها على وجه التحديد، وبين أجواء الموت فى فينسيا لتوماس مان. ينتمى العملان إلى نوع أدبى واحد هو النوفيلا، وهى مصادفة لا دخل لها بالجسور التى أتخيلها هنا إلا قليلا، والنوفيلا حالة سردية وسطى ما بين القصة والرواية، وغالبا ما يشار لهذين الطرفين عند تعريفها، وأحيانا ما تعرف بعدد كلماتها، الذى يترواح من 10 آلاف إلى 70 ألف كلمة، لتمييزها عن الرواية، أختها الكبرى، والقصة الابنة الصغرى، لكن هذه التعريفات أيضا تولى اهتمامها لمسألة الصراع والحبكات، فتشير لاحتواء النوفيلا على عدد أقل من الصراعات مما تحتويه الرواية، ولكن على نحو أكثر تعقيدا من القصة القصيرة. حرص سيد الوكيل على الإشارة إلى كتابه السردى الأحدث شارع بسادة بوصفه نوفيلا، رغم توفر هذا الشكل فى سردنا الحديث عند أسماء كبيرة مثل يحى حقى وعبد الحكيم قاسم، دون إشارة واضحة لمسماه، ومع هذا فإن الوكيل يميل لكسر حدود النوفيلا، بصيغتها التقليدية، من ناحيتين، أولا كل فصل (فقرة أو قطعة سردية) من فصول كتابه له عنوانه الخاص ويمكن قراءته منفصلا والتعامل معه باعتباره وحدة سردية مستقلة، دون مشقة أو ابتسار، وبعض تلك الفقرات تم نشره فى نص سابق للكاتب، فى أول مجموعته القصصية مثل واحد آخر، وظهرت فى شارع بسادة دون تغييرات ذات شأن. الأمر الثاني – ولعله يرتبط من بعيد بمسألة الوحدات السردية المتصلة المنفصلة – هو أن النوفيلا في صيغتها التقليدية لا تلتفت لحكبات أو صراعات ثانوية فرعية، بل تمسك بخيط واحد أساسا لا تفلته إلى النهاية، وهو ما تحقق بصرامة فى نوفيلا توماس مان الموت في فينسيا. أما شارع بسادة فتقوم عن عمد بإفلات هذا الخيط الواحد، بل لا تمسك به من البداية، وربما من الفصل الأول للنوفيلا، مشهد محطة القطار، حيث يقدم لنا الرواى شخصيات تمر بالسرد مرور الكرام، رغم أنها واعدة، وهؤلاء أغلبهم من الغرباء ليسوا من السكان الأصليين للبلدة، ولا يستعيدهم السرد فى ثنايا اللوحات والفصول التالية بالمرة، وبعد ذلك تقدم شارع بسادة مجموعة لوحاتها أو حكاياتها الصغيرة التى يمكن اعتبارها جميعا، حبكات ثانوية وفرعية. هى دوائر متواشجة، يضمها إطار مكانى وزمنى موحد، تغلفها الحالة اللغوية نفسها، كل هذا صحيح، لكن أيا منها لا يقدم نفسه بوصفه صاحب الثقل المركزى بينها، منطلقا مفترضا لبقية الخيوط والحالات. وكأن هذا الانزياح الجزئى عن حدود النوفيلا إلى حدود المتتالية القصصية، دون التورط كذلك فى معضلات بنية العالم الروائى باحتمالاته المتنوعة، يتم نشدانا لحرية الشكل وللتمويه على أى دلالة مركزية قد تنتج عن قراءة متسرعة، إلا إذا انحازت هذه القراءة أو تلك، عن وعى وقصد، إلى تلك الحكاية دون الأخرى واصطنعتها منطلقا لرؤية كلية مفترضة للعمل. وهكذا فهناك الكثير مما قيل ويمكن قوله حول شارع بسادة، بناء على تلك الخيوط المتناثرة، نسكت عنه عامدين هنا، كما نسكت عما يمكن قوله حول مغامرتها اللغوية، ومدارها نقل التجربة الحسية الحية بلغة لا تخجل من شعريتها الخاصة، ولا تكتفى بالوقوف باردة محايدة إزاء التجربة... ننحى هذا كله جانبا لصالح التريث أمام خيط الحب المثلى الذى طرحه العمل، وذلك أساسا لندرة الأعمال الأدبية المصرية الجديدة التى تتناول مسألة الميل الجنسى المثلى، دون ابتذال أو تسطيح، ودون أن يضطر المؤلف لقتل النموذج "الشاذ" فى نهاية العمل (حاتم رشيد نموذجا – عمارة يعقوبيان) إذعانا – ربما – لقانون العدالة الشعرية: الآثم نهايته بشعة، أو مغازلةً – ربما – لوعى ما نسميه برجل الشارع العادى: الآثم نهايته بشعة كذلك. وهنا تلتقى نوفيلا شارع بسادة – على الجسر الذى تتخيله هذه القراءة – بنوفيلا الموت فى فينسيا التى نكتفي بوضعها فقط في خلفية المشهد كمجرعية هامة، لأهمية ما طرحته – جماليا ومعرفيا – من هواجس وتأملات حول الحب المثلى، ليس فقط باعتباره ذلك النزوع الآثم والمدان من قبل الأديان والأعراف والأخلاق، ولكن أساسا باعتباره دراما إنسانية، يغزل خيوطها الموت عند قدمى المعبود، وفقدان الأمل فى تحقق الرغبة، وضعف أدوات الفن إزاء اكتمال الجمال البشري الحي. هواجس الموت والجمال تلك تتناثر أيضا فى جنبات شارع بسادة، على طريقتها الخاصة. في فبراير من العام 1907 نشر الروائي الفرنسي مارسيل بروست مقالا بعنوان "عواطف ولد يريد قتل أمه"، مستوحيا مقاله من حياة صديقه هنري فان بلارنبرج، والذي أقدم بالفعل على قتل أمه التى يحبها ثم انتحر. ورأى بروست فى هذا الحادث دليلا على الحب، ووصف عملية قتل الابن لأمه بأنه عمل يكاد يكون جميلا. واختتم بروست مقاله كالتالي: "وودتُ أن أبين كيف أن تفجر اللوثة وسفك الدماء قد حدثا في جو من الجمال الأخلاقي الذي يجمع بين النقاء والدين. ورغم هذا فإن الدماء المسفوكة لم تنجح في تلطيخ هذا الجمال." كأن بروست يرى هنا أيضا جسرا خفيا معلقا بين الموت (وهو هنا قتل، للأم) وبين الجمال، وكأن القتل هو الحد الأقصى لفعل الحب، وهى فكرة لا يصعب أن نجدها، حتى فى أدبيات الحب والغرام الأشد سوقية وابتذالا، غير أن ارتباطها هنا بعشق الأم والرغبة فى التحرر من هذا العشق هو ما يضعها فى إطار مغاير. وللأم كمنوذج أول – وربما متوحش – للجمال حضور خاص فى واحد من أهم وحدات السرد بشارع بسادة، إنه الولد الذى يرسم الوجوه في حجرة مهجورة، كان مرصودا للعشق، وممسوسا بالجمال... وهذا هو عنوان هذه الوحدة السردية. هذا الولد الذى أتى إلى شارع بسادة، حيث سيعيش مع جدته، بصحبة أمه التى سرعان ما تتركه هناك، وتظل حاضرة رغم ذلك، فلا يكاد يتسع هذا الفصل الصغير إلا لها، ولتأمل مشهدها الفاتن، بعينى الولد، وهو نفسه الذى يطارده الصغار، قائلين: "ابن الحلوة أهه"، وكأنهم – بتعليق السارد- يحررون أنفسهم من الموت، أما سؤال الولد فكان: فمن يحرر نفسه من الجمال؟ ما الذى يجعل هذا الولد يرسم صورا لناس وملائكة وشياطين ويطمع أن ينفخ فيهم الله من روحه؟ وهل لما يرسمه هذا الولد علاقة بكل من يجمعهم شارع بسادة من ناس وملائكة وشياطين؟ ألا يمكن لقراءة منحازة لهذا الخيط عما عداه أن ترى في هذا الولد البدين الخجول صورة مصغرة لصانع العالم كله من أوله لآخره، يقول: "فيما بعد سيتعلم كيف يكتب ذلك على الورق" متحدثا عن لحظات الاشتهاء الأولى، ذكرته بها امرأة يقابلها فى جنازة أمه. سؤال الفن شىء آخر، إنه يكافح، مستنفدا كل حيلة، للإمساك بالجمال، ذلك الهش، والعابر وسريع الزوال. الولد البدين الخجول يرسم شوارع وبيوت ويجعل ناسا يسكنوها، فإذا أعجبت الله، كما أسر له الملاك، سيمنحها أرواحا ملونة. يرسم أمه، ولدى موتها أشرف بنفسه على وضع اللمسات الأخيرة في لوحته الأولى. وكأن ميزان الموت والجمال هنا تتأرجح على جانبيه كفتان، تعلو هذه لتهبط أختها، فى رقصة متوازنة وعجيبة. ولكن الفن لا ييأس من المحاولة، إذ يأتى سقوط الكاتب جوستاف فون آشنباخ، الذى يطارد تاجيو، الفتى البولندى على شاطئ منتجع فى فينيسا أوائل القرن العشرين، دون كلمة أو إشارة، غير "أحبك" واحدة يتيمة أسر بها إلى نفسه وهو يكاد يموت خجلا وتعبا. يطارده وكأنه شبح يتقدمه على الدوام، ويروغ منه فى المنعطفات مع أسرته، سرب إناث صامتات مثل راهبات متشابهات، ومع ذلك لا ييأس فون آشنباخ، يظل يحاول، فقد : "أصبح فجأة راغبا فى إضاءته بنور كلماته، اتجهت رغبته فى شوق إلى التعبير عن الحالة الراهنة لتاجيو، بالكتابة عن بنية الغلام واتخاذها مادة لعمله، وسيتابع بأسلوبه خطوط هذا الجسد الذى يبدو له ربانيا، وسينظر فى جماله بطريقة عقلانية" وظلت محاولته تلك نوعا من المرواغة أمام المكتوب، لا في صفحة الكتاب، ولكن على صفحة العالم المادي، نوعا من المقاومة اليائسة، التشبث الأخير بحيل الفن ورصانة الفكر. فكاتبنا الجليل لن يتتبع خطوط جسد الولد بأصابعه، كما سيكشف له عن ذلك حلم مقتضب ومشوش قبل موته بساعات، ولكن بأسلوبه، وكأنه يرجئ بهذا الموت، يعانده، موته هو وقد صار شيخا هرما، ولم تفلح لمسات الزينة أو الصبغة التى وضعها له الحلاق أن تخفي آثار الزمن، وموت الولد – أو على الأقل تغيره – رغم أنه جماله نفسه مهدد، إذ يبدو عليه شحوب المرض طوال الوقت. هشاشة الجمال وظل الموت المخيم عليه دائما، معان من السهل تتبعها فى الخيوط السردية الأخرى بشارع بسادة، حتى بعيدا عن الولد البدين الخجول، صانع العالم ومكتشف الأسرار. هذه الهشاشة نلمحها أيضا عند تأمل شخصية حسونة، الحسون، عصفور الحقول الشارد بحثا عن رزقه الشحيح من الملاليم ومن الحب كذلك، بائع سريح فى زحام الأسواق بين الفلاحين، رافعا ذيل جلبابه كاشفا عن مؤخرته بلا خجل، على هامش الهامش، بلا أهل أو سند. عصفور الحقول حسونة، يرفض الموت، على طريقته، وكأنه فى الحين نفسه يرفض الحب كذلك، الحب المعمر، الحب طويل الأجل، حب البيوت أو حتى أوكار المتعة السرية. وهو يرفض الموت حين يتجنب الذهاب بمن يصطادهم من الشباب العابرين إلى المقابر، ذلك أن حارس الجبانات هناك، يعرفه جيدا ولن يفوت تلك الفرصة، وهو – حسونة – مهما كان، يكره، أن تمس مؤخرته يد اعتادت أن تجوس فى جثث الموتى. وفى مقابل الأم، النموذج الأولى للجمال الوحشى عند الولد البدين الخجول أو الفتى تاجيو، لدى حسونة سيدة آلاجا، المومس القديمة، التى اكتفت الآن بنصبة شاى وقهوة، تستقبل تحت مظلة الخيش عشاقها القدامى، وتحنو هناك على حسونة. تبنته، شريطة أن يجرى على رزقه، وأن "يسترجل" شوية، وتروح تحكى له فى الأمسيات كثيرا من قصص العشق. مع حسونة، لا وجود للدراما الثقيلة التى تنتجها تناقضات مثل الحياة والموت والذكورة والأنوثة والشياطين والملائكة، وهى الثنائيات التى اعتمدتها نوفيلا شارع بسادة، لا لشئ إلا لتفككها وتتلاعب بها، وهو ما يظهر بوضوح لا مزيد عليه فى شخصية الحاج سمير وهدان، وهنا تبرز التناقضات وصار من الممكن بالتالى إنتاج الدراما. هناك – فى فينسيا – ثنائيات أخرى فاعلة بقوة، من ناحية شموخ الفكر وأنصاب الإرادة الإنسانية المتعالية، وعلى الطرف الآخر الشغف لحسى وتدفق الأهواء والغرائز الطليقة، ولم تكن معضلة الكاتب الكبير صاحب اللقب السامى فون آشنباخ سوى الاتكاء المبالغ فيه على أحد طرفى المعادلة، بعد أن قضى عمره كله متساميا، آخذا نفسه بالشدة، مكرسا نفسه لروتين عمله الصارم، محققا الصورة المثالية التى ينشدها القراء والمعجبون، والأهم أعضاء الأسرة الكبيرة التى ينتمى إليها، وهكذا وحين يعتصره الشغف فى قبضته، يقاوم مقاومة اليائس، ويعلن رغبته فى مغادرة فينسيا، ويحزم حقائبه، ويصل للمحطة التالية، وهناك كانت تنتظره مفاجأة صغيرة، حيث فقدت حقائبه وسافرت فى اتجاه آخر، وراح يبالغ فى إظهار نقمته وسخطه، مواريا الفرح المرتعش بداخله، يمكنه الآن أن يستسلم لقدره، يعود من جديد إلى فينسيا، إلى حيث يتمشى المعبود، تاجيو، على الشاطئ كل صباح، ويلعب مع أقرانه. سيعود، لكنه لن يستطيع العودة إلى صباه، رغم جهود المزين ورشات البودرة وأقلام الحواجب والصبغة، بوسعه على الأقل أن يموت، وقد سيطر الوباء على فينسيا، أمام الهيكل الفاتن للغلام، هناك، يبدو مظللا بالكامل أمام نور الشمس الغاربة فى الأفق... الاحتفال الأزلى بطاقة الحياة، واكتمال لوحة الجمال الحى وعنفوان الرغبة، كل هذا قادر على إخراس صوت الفكر والإرادة وطموحات الفن فى التقييد والتثبيت والخلود، الزوال جميل، والجميل زائل، ينكمش الفنان ويلملم أوراقه، ويأتون لحمله من مقعده على الشاطئ، بعد أن فقد العالم واحدا من أهم كتابه. جوستاف فون آشنباخ هو هنا أقرب إلى سمير وهدان، بطبيعة الحال، منه إلى حسونة، فالرغبة مقموعة بحكم تناقضات زرعتها المؤسسات الاجتماعية باختلاف ألوانها، وقيدت بها المنتمين إليها على اختلافهم، واختلاف أهوائهم وميولهم. لدى هذه المؤسسات الاجتماعية يوجد أبيض وأسود، ويوجد خير وشر، تماما كما يوجد الذكر والأنثى. ونتعرف على ميول سمير وهدان الجنسية، من خلال إطار أسطورى خرافى، يعتمده سمير نفسه – وربما النوفيلا كذلك – مسؤولية هذه الميول، وكأنه برئ منها، فأمه كانت تتمنى الولد بعد البنات، فلمس ولى صالح البذرة التى فى بطنها وجعل لها جسد ذكر فحل، لكن الولى الصالح ينسى أن يبدل الروح روحا أخرى، فبقيت روح الأنثى سجينة جسد الذكر. هنا نلحظ أيضا ثنائية الروح والجسد، وكأن سمير وهدان – بوعى أو بدون وعى – يستخدم ثنائيات رسخها المجتمع وسكنت من فجر التاريخ فى وعى الجماعة الإنسانية، وبدونها لا تنهض المؤسسة الاجتماعية الأقدم وهى الدين، يستخدم هذه الثنائيات نفسها، لكى يؤطر ميوله، يضعها فى حكاية أسطورية مثل الحكايات التى يعتمدها الدين وتحمل فى داخلها تاريخ الإنسان. حسونة خارج أسطورة الثنائيات، خارج المؤسسة الاجتماعية ولا تقدم له النوفيلا دراما خاصة به؛ رغم ما يوجد من إمكانيات حيث يسعى لرزقه الشحيح من الجنس مع مرتادى السوق، ممن لا يبخلون عليه بسيجارة، أو يشترون بقرش سودانى، مغامرين بفضيحة لو رآهم أحد معه، "وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة". باستسلام فون آشنباخ لشغفه يستسلم للموت، لأنه مستسلم حتى النخاع إلى أحكام المؤسسة الاجتماعية وقوانينها، لم يحدث الفتى بكلمة، وتتبع خيوط جسده بالكلمات على الورق، ولم يترك الزمام لانفعالاته الشبقية إلا فى حلم هو أقرب إلى الكابوس، واحتمى بالأساطير على الدوام فى تغزله الخاص ومناجاته السرية للفتى، واستعان – غير مرة – بعلاقة الفيلسوف الشيخ بالمتعلم الشاب عند الفلاسفة الإغريق، ومال للجنس العقلى المتمثل فى الحوار المنطقى وأسرار الوجود: "لم يسبق له أن وجد طعم الكلمات أكثر حلاوة مما هى عليه الآن، لم يعرف أبدا أن الحب يقيم فى داخل الكلمات على هذا النحو". سمير وهدان يشعر بأنه متهم فى قضية أمام الوجود كله، فلا يتوقف عن الدفاع عن نفسه – عن ميوله – لحظة واحدة، ولا يتحدث إلا بلسان المؤسسة، ثنائياتها وأساطيرها، ويؤكد مرة بعد أخرى على اختلافه عن حسونة، يخاطب على، الذى استطاع أن يمس الروح الأنثوية التى بداخله مخترقا حجاب الجسد الذكورى: "أنا يا على لست مثل حسونة..." ثم بعد قليل: "لا فرق عندك بينى وبين حسونة..." وأيضا: "هذه روحى يا على، روحى التى نسيتها يد مبارة فى جسدى الجميل فحولته إلى ثلاجة.. جسدى ثلاجة جميلة، تحفظ روحا لا تغنى سوى بين يديك، أنا عاشقك وقاتلك، وأنت دفء روحى المنسية... روح منسية مثل روحى لا يوقظها سوى حيوان مثلك فيه رطوبة الطين ورائحة سعف النخيل..." نعم، دفاع هو أقرب للشعر، يصر على الابتعاد عن نموذج حسونة، تماما كما اشمأز جوستاف فون آشنباخ من العجوز المتصابى ذى الشعر الأحمر على متن السفينة، لسكران مرافق الشباب، وكلاهما يستعين بتجليات المؤسسة الاجتماعية السامية لينأى بنفسه عن الابتذال، عن العار، عن الجنس بلا مشهيات ولا مقبلات، عن الجنس وفقط، كالحيوانات، إما بالفن، حيث يمكن للحب أن يقيم داخل الكلمات، وإما بالحب – الابن الأشهر للمؤسسات الاجتماعية، بجميع تجلياته الدينية والشعرية – حيث يمكن لرغبة سمير وهدان أن تتميز وتتسامى عن حسونة وأمثاله، من الحيوانات. حسونة لا يدافع عن نفسه، ليس متهما، هو خارج الحسابات أساسا، ولعله فعلا لا يفرق بين الأجساد التى تتناوب عليه، ولكننا نعرف على الأقل واحدا لم يستلم له حسونة، وهو حارس الجبانات، لأنه يكره الموت، لأنه يهيم على وجهه بين الأجساد والأشواق غير المشبعة، مهما أشبعناها. وفى اللحظة التى يهرب فيها حسونة من الموت نجد سمير وهدان يقتل عليا، وإن لم يقتله بيده، يكتفى بأن وشى بمعبوده لزوج المرأة التى نام معها، ودله على الأدلة والقرائن الدامغة، هذه هى نوعية الدراما التى تنتجها المؤسسات الاجتماعية، والنتيجة المتوقعة على الدوام من صراع وجدلية المتنافضات: يقتل صاحب الرغبة غير المتحققة فتاه الذى أشعل فيه الحرائق ولمس روحه الأنثوية، وتمسك الكوليرا بالطبقات التى تعفنت على شواطئ فينسيا، وقد فات الأوان للكاتب الكبير أن يعود عن مشوار عمره كله، فيتجمد مثل تمثال ملح أمام مشهد المعبود الحى، بعد أن رُفعت الأقلام وطويت الصحف.