من أرشيف القصص
ليسـت بيضـاء تمامـاً..
لازالت تسرب رائحة البنبون الأحمر إلى صدره ، وتثير حساسية الخطايا الصغيرة ، كلما أدار شريطا بصوت المغنية القديمة ، حتى تلامس بحة صوتها شفتيه بقبلة لها رفيف الملائكة الصغيرة ، فيجالسها على حجر أبيض ويشترى لها عقد الفل ، فيما يضحك الأولاد العابثون من رأسه الحليق ، ويقول أكبرهم ..آسف يا دفعة .
- أنت الوحيد الذي رأى الحسنة بين نهدى ، وهذا الجرح منك ، شريط صغير بطول سنتيمتر عند مفرق الشعر.
تحسسه بطرف السبابة وقبل عينيها ، قال ..أحب ملمس حاجبيك على شفتي .
- هل تذكر القهوة التي اعتاد العجوز أن يعدها لك ؟
كم عدد القبلات التي تغمرني بها أثناء ذلك ؟
وحين يرجع بالصينية البلاستيكية الصغيرة كان يمشى بحذر، ويضعها بجوارك على حافة السرير ، فتبدو ملائكياً كعادتك،وأنت تسرح فى النقوش الملونة على حواف الصينية .
- أنا لا أشرب القهوة إلا من يديك يا حاج .
يا للمنافق الصغير .
أنت أيضاً يا حبيبتى ، وقطعة البنبون الأحمر التي تذوب بين شفتينا تشهد ، فى الحادية عشرة تماماً تحدقين فى الساعة ذات الصندوق الأبنوسى والبندول الفضي الكبير المتأرجح فوق رأس العجوز ، وتمررين مساء الخير على الجميع قبل أن تتسللى إلى سريرى ، وأنت فوق السرير تطالعك صور الأهرامات الثلاثة معكوسة على صفحة النيل ، ثمة بيوت طينية صغيرة ونخيل ، وولد يعزف الناي على الشاطئ يبدو كالأشباح .
كنت على يقين من أن النيل سيعود يوماً ليمر تحت الأهرامات ، بحيث تنعكس صورتها كاملة على الماء، كلانا كان على يقين ، ففي كل مرة أسألك عن الأنين .. نشوة .. أم ألم ؟ وفى كل مرة كنت تقولين .. أشياء كهذه تعرفها بنفسك ..أنت تخجلني .
أبداً لم أسبب لك أي إهانة ، فالجرسون الذي شتمنا كان يشعر بالغيرة ، لك أن تفخري بنهدين لهما تلك الاستدارة اللينة، كنت أحس ملمسها الرائع تحت لسانى ، حسنة صغيرة تزدهي فى مساحة الحليب بلونها الداكن ، هذه العلامات لا تمحى،ونتعرف بها على أجسادنا .
حتى بعد تلك السنوات ، أجلس كطفل ترك الكاكاو ينسكب على صدر المريلة ، ويبرر بنبرة خافتة .. كنت صغيراً وقتها ، كنت صغيراً ولم أكن قادراً على الاحتفاظ برائحة البنبون الأحمر، كانت أثقل مما يحتمل فتى فى الثامنة عشرة ، يمكنني أن أقول أنى احتفظ بها فى كتاب .
حتى الورود البيضاء يتعكر لونها فى الكتب القديمة ، والرائحة سيصيبها ذبول ما .
أنت لم تعرف يوماً الفرق بين المتعة والعذاب .
فى طفولتك كنت مغرماً بالرقص فوق حواف الأسوار ، فأصرخ بجد كلما خدعتني بقفزات مباغتة ..ستسقط..وكنت تضحك منى، أنا التي لا أتقن الخدع الصغيرة ناولتك يدي ، وهكذا تركتني أسقط ليشج رأسي ، وأحيا بقية العمر بجرح عند مفرق الشعر ، بالطبع مازالت الحسنة موجودة ، والعطور القديمة لم تعد تناسبني ، أنا الآن أم وزوجة لرجل ثرى ، وثمة عطور اليوم تطمس العلامات القديمة ، ويمكنها أيضا أن تطمس الروح ، فى الغربة شيء ما يتغير ، على أي حال فى الرابعة انتظر مهاتفتى كن بجوار التليفون، بالمناسبة ..هل ابنتك هي التي ردت على اليوم ؟ هل هي جميلة ؟ هل تشبه أمها ؟
على أن أقول ..دائماً تباغتني رائحة البنبون الأحمر .
رأيت الأولاد على الكورنيش يمشون بجدية لا تناسبهم ، ورأيت ياسر وغادة فى مشهد نادر بعد عشرين عاماً من مشهدنا ، كل عشرين عاماً يتكرر مشهد ويختفى دون أن يترك أثراً على رصيف الكورنيش ،أي أثر يمكن أن تطأه أقدام الأولاد الجادين ، الذين يعدون بلاطات الرصيف الكبيرة ، ويحرصون ألا تلمس أقدامهم الخطوط الغائرة بينها ،ويفخرون بقدرتهم على المشي فى خط مستقيم ، ويفرحون بامتداد الرصيف اللانهائي ،ويتمنون الموت للأولاد العابثين الذين سيسخرون منهم حتماً.
هل ينبغي أن أعتذر؟
حسنا .. كنت ضعيفاً وخائفاً ،وأنت تعجلت الرحيل ، والسائق لم يترك لنا فرصة الوداع ، وكان على أن أعود للحجر الأبيض ، بعد عشرين عاماً دون خوف من المعابثات العابرة .
فى الرابعة سوف انتظر مهاتفتك ، سأعلق روحي بحركة عقربي الساعة الإلكترونية التي تصيبني بالتوتر ،وعند الرابعة تماماً سأكون أمام رف الكتب ، وسوف يمتلئ صدري برائحة الورق المخزون ، سأحاول أن أكون دقيقاً قدر الإمكان فى تمييز الروائح القديمة ، وفى مكاني هذا سوف أنصت بكل دقة لصوت ابنتي ، وارتبك قليلاً حين تضع سماعة الهاتف بعصبية ، وتسب بصوت عال .. هؤلاء الذين على الطرف الآخر ولا ينطقون.