جزء من شارع بسادة
زوج أرانب يتناسلان تحت سرير الغانية العجوز ليلاً، ويرعيان في الحلفاء نهارًا)
عندما جلس حسونة بجوار سيدة آلاجا، سمعتْه يئن، ولمحت دمعة تسيل بين عماص عينيه. قالت:
ـ مالك يا خويا؟.
ـ تعبان.
ثم مال برأسه على حجر كبير وأغمض عينيه، فوضعت كفها على كتفه وطبطبت عليه.
صحيح أن سيدة ضاجعت رجالا كثيرين، لكن الله لم يمنحها ولدا واحدا، وذات مساء قائظ أرسل لها حسونة حتى باب بيتها. كان ولدا صموتا اعتاد الصبيان أخذه إلى أرض أبي خليفة ليمنحهم متعا سرية بعيدًا عن عيون الملائكة. رأته لأول مرة يشرب من زير جعلته سبيلا أمام بيتها، فعرضت عليه أن يبقى معها بشرط أن يسعى على رزقه، فهي لا يمكنها أن تحمل سوى هم نفسها وزوج أرانب يتناسلان تحت سريرها ليلا، وفي النهار يرعيان في الحلفاء غير بعيد عن البيت خشية الثعالب.
في الحقيقة هو لم يكن بيتا، مجرد خص كبير جعله أبو خليفة على رأس أرضه، يقيّل فيه حتى اصفرار الشمس ويأكل لقمته، ولما مات، أهمل أولادُه الأرض؛ فأكلتها الحلفاء، وسكنتها الفئران والسحالي والثعالب والأولاد الهاربون من عصا الأستاذ رزق الله.
الآن.. لا أحد يعرف متى سكنت سيدة الخص؟، ولا متى وسعته ودهكته بالطين وجعلت أمامه مصطبة وزيرًا حتى صار في كامل هيئته كبيت يقول الناس عنه: بيت سيدة القحبة؟.
كل صباح ينفتح باب البيت ليخرج ولد صموت وزوج أرانب، يتحسسان الأفق في حذر ثم يمضي كل منهما إلي طريق. وفي المساء كثيرا ما يتفق أن يعودا معًا فيما تكون سيدة على المصطبة تجلس.
فقط يوم السوق، تضفي سيدة على المشهد تغييرا. تغير طفيف ولكنه يخصها ، ثم أنه سيكون محور كل شىء فى ذلك اليوم ، منذ الصباح تختار مكانها المفضل فى مواجهة خص البوظة ، لتكون فى مرمى بصر الملطوشين فى دماغهم ، ستقاتل من أجل هذا المكان المميز، لهذا سيشهد السوق عدة معارك صباحية ، تكون محوراً لمسامرات رجال البوظة وقفشاتهم ، وهم يستعيدون المشهد الذى طاردت فيه الشيخ مرسي بائع الكتب ، والشتائم الجديدة التى ابتكرتها هذا الصباح ، وسيتوقفون طويلاً أمام المشهد الذى خلعت فيه ملابسها ، حتى لايجرؤ أحد على الاقتراب منها وهى عارية .
في طريق العودة سيكون ثمة أفق صامت، وظلمة خفيفة تذوب فيها الملامح، حتى الضوء الشحيح المنبعث من مبنى "الاسبتاليا" لن يكشف ملامحهما، غير أن تفاصيل أخرى لا تخطئها العين. امرأة قصيرة وممتلئة قليلا تزكُ فى مشيتها، تمسك بُقْجَةً في يدها وتزكُ، وولد نحيل يعلق سلة في ذراع ويسند بالآخر حمل برسيم علي رأسه، فيما يقعي زوج أرانب حذرًا أمام الباب. ولولا فراؤُهما الأبيض، لما تمكن حسونة من رؤيتهما، وفيما هي تحدق بعينين متعبتين يقول:
ـ متخافيش.. ولادك قاعدين يا سيدة.
تضحك وتقول: يعني مين حيعرّص عليهم غيري.
في أمسيات مثل هذه، حكت سيدة للولد النحيل كثيرا من قصص العشق، كل عشاقها القدامى. وستتوقف كل مرة بتفاصيل أدق عند حكايتها مع عنتر عبد الهادي.
ستبدأ حكاياتها ـ عادة ـ هكذا:
ـ مش قلت لك يوم السوق ده يوم الخير.. تعرف زارني مين النهاردة..؟ ثم تحكي..
بالنسبة لولد أمرد بساقين نحيلتين وعروق زرقاء نافرة، فيوم السوق هذا هو يوم شقا ووجع قلب. غير أن الفتي المسكين الذي ينهكه اللف في السوق وتؤذي مشاعره رذالة الفلاحين، سيجد ملاذا آخر النهار. فهناك سيدة بجوار ساحة المواشي تجلس، سوف تلقاه حتماً ببشاشة، تبتسم وتكشف أسنانها الذهبية، وسوف تمسح رأسه بكفها الخشن المصبوغ بالحناء، والأظافر الطويلة القذرة، وتلك الأساور البلاستيكية التي اشترتها من السوق ـ نفسه ـ تشخلل في يدها، وهي تهش الذباب عن عينيها الملتهبتين اللتين بلا رموش، وكحلة داكنة الزرقة حولهما، تطبطب براحتها على الأرض.. تعالي يا ضني أمك.. استريّح يا خويا.
يقول: دوخة وحياتك يا سيدة.
ـ يا واد استرجل شويه.. مش كده.
يريح سلة السوداني عن ذراعه، يرفع ذيل جلبابه وهو يجلس.
وعادة تدس يدها في بقجة بجوارها، وتمنحه شيئاً يأكله، كثيراً يرفض ويقسم أنه غير جائع. في الحقيقة ..هو عادة يكون على لحم بطنه، غير أنه لا يحب أن يقول الناس: إن حسونة يستقطع ولية غلبانة ولا أحد لها في الدنيا.
ثم إنه لا يستطيع أن يمنحها شيئاً في المقابل، فأسنانها ـ حتى الذهبية منها ـ لا تقوى على طحن السوداني، ومع ذلك فقد يمنحها سيجارة أو سيجارتين. هو بالطبع لا يدخن، ولكنه أخذها من هؤلاء الذين اختلوا به في طريق جانبي، في وقت لا يسمح بحدوث شيء، غير أنه كاف لإثارتهم، بحيث يمكنهم إذا عادوا لبيوتهم، أن يستعيدوا تلك اللحظة، فيضفون على عاداتهم السرية شيئاً من الإثارة الحية، وهم في مقابل ذلك لا يبخلون بسيجارة، أو يشترون بقرش سوداني، والأهم من ذلك أنهم يغامرون ـ وهو في الحقيقة ثمن فادح ـ إذ يعرّضون أنفسهم لفضيحة لو رآهم من يعرفهم، وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة.