نراجيديا أسمهان

رؤية فى مسلسل أسمهان

فى كتابه فن الشعر حدد أرسطو مفهوم الدراما وعناصرها ، ورهن الدراما جيدة الصنع بما أسماه البطل التراجيدى ،وهو نبيل بطبيعته ، خضع لامتحان القدر ، فارتكب مايسميه بالخطأ التراجيدى ، الذى يعتبر نقطة الانقلاب الخطيرة فى حياة البطل ، فينتقل من حال السعادة إلى حال الشقاء . ثمة بذور درامية عديدة فى حياة أسمهان ، أهلتها لتكون شخصية تراجيدية من الطراز الأول بل وكما يعرفها أرسطو . وهذه البذور بدت بمثابة عوامل أسهمت فى البناء الدرامى لمسلسل أسمهان الذى عرض خلال شهر رمضان ، ولا يعنينا ـ هنا ـ المسلسل نفسه من حيث هو عمل تلفزيونى بقدر ما يعنينا ، كيف قرأ كاتب السيناريو الأبعاد الدرامية فى شخصياته . أسمهان أميرة من بيت الأطرش ، خرجت من بلادها فى ظروف سياسية واجتماعية حرجة بعد وفاة أبيها ( فهد الأطرش 1924) . أنتقلت إلى القاهرة وهناك عاشت مع أمها ( الأميرة علياء المنذر) وأخويها فريد وفؤاد حياة بؤس وشقاء . مما أضطرهم لاحتراف الغناء فى الملاهى والحفلات العائلية ، فقط ليتمكنوا من الحصول على لقمة العيش . إن هذا التحول ـ فى حد ذاته ـ كاف لكى يخلق بذرة الشقاء التراجيدى فى حياة أسمهان التى لم تغفر للقدر هذه الإهانة ، تماما كما لم يغفرها أخوها فؤاد الذى ظل مشدودا لأحلام الماضى السعيد فى جبل الدروز . غير أن أسمهان بحكم تركيبها النفسى ووعيها وإيمانها العميق بذاتها وموهبتها ، لم تكن مجرد فتاة تحلم بالإمارة أو الحياة الرغدة السعيدة فى جبل الدروز . وإلا لاكتفت بزواجها من الأمير حسن الأطرش وركنت إلى هذا الزواج السعيد الذى استعادت فيه شخصية الأميرة . كانت جذوة الفن قد توهجت فى نفس أسمهان بعد تجربة الحياة فى القاهرة التى كانت قبلة الفنانين والموهوبين فى ذلك الوقت ، فجرت التجربة وعى أسمهان الجمالى ، وكانت بمثابة التحول الدراماتيكى الأول فى حياتها ، فهناك فارق كبير بين مطربة خرجت من قرية صغيرة إلى القاهرة فى رعاية أبيها مثل أم كلثوم ، حيث يعتبر هذا امتدادا فى النمو الطبيعى للشخصية ، وبين أخرى طاردت أسرتها الظروف فخرجت من تركيا إلى جبل الدروز ، وبموت عائلها الأمير فهد تخرج مرة أخرى إلى القاهرة فى كنف أرملة عربية جردت من كل حقوقها لتعانى الاغتراب والفقر . إن خط الانحدار العنيف والمتتابع هوالذى يخلق نازع المأساة التى يدبرها القدر فى حياة الشخصية الدرامية . ولا شك أن طموح أسمهان تجاوز إمارة الجبل إلى إمارة الغناء العربى فى وقت كان نجم أم كلثوم يعلو باضطراد ، وفيما تنعم أم كلثوم بحياة مستقرة تقود نجاحاتها بلا اضطرابات كبيرة سوى منغصات المهنة . كانت حياة أسمهان تمر بانحرافات دراماتيكية مثيرة بل ومربكة . يعتبر أرسطو الطموح أحد سمات الشخصية الدرامية ، فالطموح يخلق أنماطا من الصراعين : ( الداخلى والخارجى ) الذى على البطل التراجيدى أن يخوضهما ليتحقق الفعل الدرامى .وانكسارات الطموح بفعل تدخلات القدر أو عن سوء تقدير أو نتيجة للتردد، هى التى تحقق الانقلاب التراجيدى . فكان زواج أسمهان من الأمير حسن الأطرش أول انكسارات هذا الطموح ، بل وأول علامات الخطأ التراجيدى ، حيث كشف عن نازع التردد فى حياة أسمهان بين نزوعين : حياة الفن والشهرة والأضواء والسهر فى القاهرة . وحياة الدعة والاستقرار والعمل الاجتماعى الذى مارسته أسمهان طوال فترة زواجها من أمير الجبل . وهى على أى حال فترة قصيرة عاشتها الأميرة أمال الأطرش ( أسمها الحقيقى ) استمرت من 1933 إلى 1939 رزقت فيها بابنتها كامليا . سرعان ما تاقت أمال الأطرش إلى أسمهان وحنّت إلى حياة أهل الفن وشهرتهم المبهظة . هكذا حصلت أسمهان على الطلاق من الأمير حسن وعادت إلى مصر لتدخل حمى الغناء والسينما من جديد . يكشف هذا عن طابع التردد فى شخصية أسمهان وهى سمة من سمات الشخصية التراجيدية ، ويبقى السؤال :هل اندفعت أسمهان إلى الخطأ التراجيدى عن سوء تقدير عندما أستبدلت طموح إمارة الجبل بإمارة الغناء فوضعت نفسها فى المكان الخطأ ؟ فالفترة القصيرة ـ خمس سنوات ـ التى عاشتها أسمهان بعد طلاقها من الأمير حسن وحتى موتها عام 1944 كانت حافلة بالأحداث المثيرة والتوترات والمنغصات التى أربكت حياة أسمهان ودفعتها إلى حافة الجنون وإدمان الشراب . فخلال هذه الفترة عانت أسمهان من عسف أخيها فؤاد الذى كان عقبتها الوحيدة فى طريق الفن بدافع النخوة والحفاظ على شرف العائلة التى لم يستطع أن يتخلص من الانتماء إليها . كان فؤاد هو الابن الأكبر ، عاصر جانبا من عز الماضى ، فصار إحساسه بالمأساة أكثر عمقا . ففؤاد ـ مثل أسمهان ـ لم يتقبل صفعة القدر لأسرته ببساطة ، كان دائما مشدودا إلى الجبل حيث أحلام الإمارة والماضى العريق ، ولم يكن مثل أسمهان أو فريد ممسوسا بالفن الذى ينازعه عواطفه لحياة الجبل أو يعوضه عنها . هكذا ظل فؤاد مشدودا للماضى ، فى وقت كانت فيه كل الأسرة مشدودة للمستقبل فى القاهرة ، لهذا عانى فؤاد اغترابا شديدا بين أسرته ، فعاش مؤرقا بين شعوره بالمسؤلية تجاه أسرته ورعايته لها من ناحية ، وعجزه عن تحقيق هذه الرعاية وتوافقها مع نزوعه الماضوى من ناحية أخرى . لهذا بدا فؤاد شخصية مؤرقة مؤرجحة بين حالات من الغضب الملتهب وأخرى من التعاطف الأخوى . ولقد نجح الممثل ( فراس إبراهيم ) فى تجسيد توترات الشخصية وملأ فراغ الدور المساعد فجاء ندا قويا للمثلة السورية ( سلاف فواخرجى ) التى أدت دور أسمهان . بل ومتفوقا على كل من أحمد شاكر ( فريد الأطرش ) والأم ورد الخال ( علياء الأطرش ) . والحقيقة أن شخصية فريد الأطرش بدت بسيطة ومسطحة كأى شخصية ثانوية ، وهى شخصية أحادية لاتتنازعها مشاعر متضاربة ، بقدر ماهى سلبية مسيرة فى اتجاه وحيد يجعلها غير مشغولة سوى بنفسها وما تحققه من نجاحات فى عالم الطرب . فى أحد المشاهد البارزة ( ليلى / داخلى )، يدخل فريد بيت الأسرة فى وقت متأخر من الليل ، فيجد مشاجرة عنيفة بين فؤاد من ناحية وأسمهان وأمها من ناحية أخرى فيقول : " وبعدين بقى .. أنا مش فاضى للعب العيال ده .. أنا داخل أنام " .ما يعنينا فى هذا الشاهد أن البعد الدرامى غاب تماما عن شخصية فريد فى هذا العمل ، وغياب هذا البعد هو الذى أدى إلى تسطيح الشخصية . فيما جاءت شخصية فؤاد أكثر تركيبا وحضورا نتيجة للبعد الدرامى فيها ، بما يعنى أن الشخصيات المساعدة ـ أيضا ـ تحتاج إلى مقومات درامية لتدعم النسيج الدرامى للبطل التراجيدى ، تماما كما كان الحال عند أوفيليا فى هاملت أوياجوفى عطيل ، وظنى أنه كلما كثرت الشخصيات المساعدة المسطحة فى العمل الدرامى كان هذا أدعى إلى سقوطه ، وهو ما حدث مع مسلسل ( ناصر ). فقد ارتكب يسرى الجندى خطأ تراجيديا قاتلا بدافع من الحب والتقديس ، عندما جعل من جمال عبد الناصر بطلا وحيدا فى المسلسل . قد يقبل التاريخ فكرة البطل الأوحد ، لهذا فإن مئات الرجال الذين قاتلوا بجوار صلاح الدين الأيوبى لانعرف عنهم شيئا ، أما الدراما فهى لاتعرف البطل الأوحد ، مهما كان عظيما وإلا انتفى الفعل الدرامى . عاشت أسمهان حياتها مطاردة بفكرة الموت حين آمنت بنبوءة عراف ( يقال أنه الفلكى الأسيوطى بحسب موقع ويكيبديا على شبكة الأنترنت ) ، أخبرها العراف أنها ستموت فى عز شبابها ومجدها ، ستموت فى الماء كما ولدت فى الماء . بغض النظر عن صدق حكاية النبوءة التى ذكرتها كثير من المصادر ، إلا أن الحقيقة التاريخية هى أن أسمهان ولدت فى 22 نوفمبر 1922 على متن باخرة كانت تنقل الأسرة بعد خلاف مع السلطات التركية ، وتوفت صباح الجمعة 14 يوليو 1944 عندما انحرفت سيارتها ونزلت فى ترعة الساحل ، غرقت أسمهان وصديقتها مارى قلادة ولم يعثر للسائق على أثر ، فاتجهت إليه أصابع الاتهام ـ وهذا ما رجحه المسلسل ـ بأنه ضالع فى مؤامرة إغراق أسمهان ، وظلت التكهنات بأطراف المؤامرة مفتوحة ، بين بيت الأطرش والمخابرات الإنجليزية وزوجها ـ فى هذا الوقت ـ الممثل أحمد سالم الذى كان على خلاف حاد معها ، بل وطالت الاتهامات الملكة نازلى وحتى أم كلثوم . لاتهمنا ـ هنا ـ الحقيقة فى مسؤلية أى من هذه الأطراف عن موتها، بل العكس ، فالغموض الذى أحاط بموتها أضفى مزيدا من الدراماتيكية على شخصية أسمهان ، يهمنا الآن أن نتوقف قليلا عند فكرة النبوءة . وكأننا أمام تراجيديا يونانية ، تكون لنبوءة العراف دور فى تحديد مصائر البشر ، وتحكم حركتهم فى الحياة ، تماماكما حكمت نبوءة معبد دلفى حياة أوديب الملك وجعلت منه شخصية تراجيدية بامتياز. كانت أسمهان تعرف أن حياتها ـ المليئة بالطموحات ـ قصيرة لهذا كانت فى صراع مع الزمن فعاشت حياة صاخبة محتشدة بالتحولات والنقلات بين عدة أدوار: ـ دور أميرة الجبل وسيدة البروالإحسان ـ دور المطربة والفنانة المشهورة ـ دور سياسى ارتبط بعلاقتها بالاستخبارات الإنجليزية ـ دور تحررى ارتبط بإدراكها لذاتها كامرأة لاتترك مصيرها فى يد الآخرين ، فتتخذ القرارات الصعبة والمؤثرة بتعدد مرات الزواج والطلاق والحياة بمفردها بعيدا عن وصاية الرجال متحدية تقاليد بيئتها التى ظلت تطاردها فى شخص أخيها فؤاد خصوصا . إنها أدوار من النادر أن تجتمع فى حياة امرأة شرقية عاشت حياة قصيرة على هذا النحو. وخلال هذه الأدوار مرت أسمهان بعدة تحديات . كان أبرزها رفض السلطات المصرية منحها الجنسية المصرية حتى بعد زواجها من الممثل أحمد بدرخان الذى جاء خصيصا من أجل الحصول على الجنسية . كان المسلسل قد ركز على أن القصر ( الملكة نازلى ) وراء عدم منحها الجنسية ، وظنى أن للاستخبارات الإنجليزية دور كبير فى هذا الصدد ، لقد كان نوعا من الضغط والتمهيد لعودتها إلى زوجها الأمير حسن ، فى إطار صفقة استخباراتية تقوم فيها أسمهان بإقناع شيوخ الجبل بتسهيل مهمة قوات الحلفاء لطرد قوات فيشى من سوريا . على أى حال ، كانت النبوءة ماثلة فى ذهن أسمهان طوال الوقت ، غير أنها لم تسع للهرب منها كأوديب ، فقط أكسبتها قدرة على التحدى ، وخوض المغامرات والانهماك فى الحياة ، لكنها ـ على أى حال ـ حياة لم تخل من إحباطات ـ أيضا ـ دفعتها إلى الانتحار تارة وإلى الشراب أخرى . فى نهاية الأمر نحن أمام شخصية ، يُظهر التحليل الدرامى أنها شخصية درامية من طراز نادر وذات طابع مأساوى من ذلك النوع الذى يمنح كتّاب الدراما قماشة واسعة للمعالجات الدرامية .

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كان محتاجا لمن يسكب قهوته

شارع بسادة