نساء يركضن وراء الذئاب

نساء يركضن وراء الذئاب

فى البدء كانت الكائنات تمرح ، وكانت الطبيعة هى كل ما هو موجود على الأرض ، حتى جاء الرجل الأول ، ولم يكن قادراً على التعايش مع الطبيعة ، فراح يقتلع الأشجار ، ويقتل الحيوانات ليبنى لنفسه أكواخاً ويصنع ملابس وشباكاً يصطاد بها مزيداً من كائنات الطبيعة ، وذات مرة وقع شيئ منها فى شبكته ، ظل يغنى طوال الليل بصوت جميل وقع كالسحر فى قلب الرجل ، وفى الصباح رآها فى صورة المرأة فأعجب بها ، وتأثر بنظراتها العطوف المتوسلة من وراء خيوط الشبكة ، ولكنه لم يفهم ، فبدلاً من أن يتركها للطبيعة ، احتفظ بها لنفسه ، وأجبرها لتبنى أكواخاً وتصنع الملابس والشباك له . كلاريسا بنكولا .. قاصة مجرية من أصل أسبانى مكسيكى ، تقول فى مقدمة كتابها نساء يركضن وراء الذئاب : " إننا جميعاً نفيض شوقاً وحنيناً إلى الحياة الوحشية ، بيد أن ترياق الحضارة لايترك لهذا الحنين منفذاً ، تعلمنا أن نشعر بالخجل من هذه الرغبة ، غير أن ظل المرأة الوحشية ، مازال ينسل خلفنا ، ويكمن فى أيامنا وليالينا " . تجمع كلاريسا مئات القصص والحكايات والأساطير عن المرأة ، وتقول إن هذا التراث السردى وسليتنا الوحيدة الباقية لنعرف من نحن ؟ نشأت كلاريسا فى منطقة غابات بالقرب من البحيرات العظمى ، حيث كانت تتغذى على البرق والرعد ، وحيث كانت حقول القمح تعزف طوال الليل بحفيف أوراقها ، وعلى المدى البعيد ، كانت ترى الذئاب تأتى إلى المناطق الجرداء فى ضوء القمر ، تتهادى متمايلة فى صلوات إيقاعية ، وكان بمقدورنا أن ننهل جميعاً من نفس الجدول دونما خوف . هكذا بدأ الأمر بملاحظاتها ومشاهداتها عن علاقة المرأة والذئاب بالطبيعة ، فراحت تجمع القصص والأساطير ، والمعلومات الموثقة فى علوم البيولوجى ، وقرأت عن العادات والسلوكيات النسوية ، ما اندثر منها وما تبقى ، ثم اختبرت كل هذا بعلم النفس ، وهو مجال تخصصها الأصلى ، ثم كتبته بروح شاعرة ، فتكون لدينا كتاب من ستمائة صفحة ، غاية فى الإبداع الجميل ، وغاية فى المتعة الذهنية والحسية . إن فكرة الكتاب تبدو فى النهاية بسيطة ، وربما ليست جديدة تماماً ، فكلاريسا تلخصها بأن الطبيعة هى النفق السرى الذى يوصلنا إلى المرأة ، الاتصال بروح المرأة الوحشية ، قبل أن تصبح سجينة التقاليد والقوانين وأنساق الحضارة والمدنية ، لهذا اتخذ كتابها صبغة بحثية ، تتنقل بين عدة معارف وعلوم ، وتكتبها بأساليب تحلق بين السرد والشعر والتحليل النفسى والأنثربولوجى ، ويحتشد بأصداء الأساطير والأدب والدين والسياسة والعلوم الإنسانية المختلفة ، أنه ثراء مدهش وأنت تجد نفسك تركض فى الأحراش وراء امرأة تبحث عن عظام جدتها الأولى ، بلا خرائط أو بوصلات ، فقط تتبع خطوات غريزتها القوية ، تلك الغريزة التى تقود الذئاب إلى جداول الماء . كلاريسا أمضت قرابة ربع القرن من العمل الدقيق المثابر فى جمع وتأليف هذا الكتاب ، وانتهت منه 1994 ، . كلاريسا لم تكن مجرد كاتبة قصة آمنت بأنوثتها ، ولكنها أيضاً باحثة جادة ، أنجزت عملاً نسوياً خالصاً مادة ولغة وأسلوباً ومنهجاً ، وهذا هو الفارق بين ماكتبته كلاريسا ، وما تكتبه عشرات الكاتبات النسويات عندنا ، موتيفات وشعارات وطنطنة نضالية فى إطار صنعه رجل وسماه قضية المرأة ، واستكتب له كاتبات لانجنى من ورائهن شيئاً سوى وجوههن اللامعة على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد ، الفارق بسيط ، أن كلاريسا تبحث عن نفسها ، والآخريات يبحثن عن دور ، هذا هو الفارق المهول بين العمل الجاد ، والعمل الزائف ، ولهذا توجه كلاريسا دعوة لأمثالهن فتقول : " دعينا ننطلق الآن ، ونتذكر أنفسنا فى الماضى ، فى روح المرأة الوحشية ، دعينا نغنى كى ينمو لحمها على عظامنا مرة أخرى ، انزعى عنك أى رداء زائف ألبسونا أياه ، وتدثرى بالرداء الحقيقى للحدس الغريزى والمعرفة ، نقى عوالم الروح التى كانت يوما ملكاً لنا " .

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نراجيديا أسمهان

شارع بسادة

كان محتاجا لمن يسكب قهوته