مغامرة الكتابة فى شارع بسادة

أخبار الأدب الأحد 22 من مارس سنة 2009م - 25 من ربيع الأول سنة 1430هـ - العدد 819 شـــارع بســادة: الكـــتابة بوصفها مغامـرة كتب : أحمد عبد الحميد النجَّار
يدخل سيد الوكيل مغامرات إبداعية جديدة في عمله الأخير "شارع بسادة" بدءا بالمغامرة النوعية، فقد كان حريصا علي تسميته "نوفيللا" بما قد يثيره المصطلح المتواري الآن من أسئلة إشكالية حول هوية النوع الأدبي، وليس انتهاءً بالمغامرة النصية _ التي هي في الحقيقة _ حلقة في سلسلة مواصَلَةِ سيد الوكيل لإثمه الجميل: التناص مع الذات؛ إذ تحيلنا النوفيللا علي متتالية قصصية تحت عنوان "حواس تستيقظ" (ويقظة الحواس هي محرك السرد الأساسي في النوفيللا) في مجموعته "مثل واحد آخر"، تلك التي ضمَّنَها تسعة نصوص سردية قصيرة تتردد أصداؤها في النوفيلا علي نحو أكثر جرأة وترابطا، ولا يكتفي الوكيل بإدماج محتواها السردي في عمله الأخير، لكنه في كثير من الأحيان ينقل جملا وفقرات كاملة كما هي، ودون تغيير تقريبا. وعليه يثار التساؤل حتما: إلي أي حد استطاع الوكيل بنينة نصه الجديد بما يمنحه التفرد وخصوصية الدلالة؟ يقدِّمُ الوكيل عنوان النوفيللا الداخلي "شارع بسادة" متبعا إياه مرتين في صفحتين متتاليتين بعبارة "حيث رأي الناس مهرة بيضاء تعدو، ومسهم سحر عينيها الجميلتين، فسكنتهم فتنة وضلال"، ثم تقدَّم النوفيللا بنص من العهد القديم: "ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلي مدينة"، تلك التي تحيل علي المقدس وتبدأ بنا رحلة عبر النوفيللا قوامها الاشتباك معه بعنف _ أولا _ والتساؤل حول ماهية الغفلة التي يقع شخوص العالم أسري لها - ثانيا. وتتكون النوفيللا من خمسة عشر نصا متوسط الطول، لكل منها عنوان مركب؛ من كلمة واحدة أو ما هو بمثابة الكلمة الواحدة (عنوان رئيسي: الشيطان _ الأعمي - المرأة ...)، تتبعها جملة شارحة تحتل موقعا طباعيا ثانويا (عنوان فرعي: الذي كان كامنا لعلي ومارسا تحت السرير _ الذي أدرك صهيل البنت، فاحتواها من أجل قذفة أخيرة _ التي عرت فخذيها للشمس، وتركت الكتاكيت تتقافز، وتنقر شيئا بينهما ...). بالملامح السابقة تتجلي - أولا - أمارات البنينة الهيكلية في النوفيللا. وعلي مستوي الحبكة فإن (عليّ) هو الشخصية التي تقع في مركز العلاقات بين شخوص النوفيللا لتربط حبكتها، رسول الفتنة المقدَّسة والإغواء الطهور (ولاحظوا دلالة الاسم)، يُقتل ويصبح قتله حدث النوفيللا الرئيسي الذي يروي أكثر من مرة ليحقق تمفصلَ السرد فيما يشبه الأوتاد الإيقاعية، ويغلَّف مقتله بطابع استشهادي يجدد حضوره بموسمية الحدث الغرائبي: "لكن شيئا نما فيك ممزوجا برطوبة الطين وسعف النخيل وصهد الفرن. إنه بيت مبارك بالعناق والشهوة. تسكنه أرواح الغرباء فلا تكف عن الرفرفة بين جدرانه. من أجل هذا كنت أعرف أنه لن يسقط. فقط..بالمطر كان يغتسل ويبدأ من جديد". إن مساءلة التصور الديني التقليدي حول الجمال والفتنة والإثم هي رسالة النوفيللا الدلالية الأساسية، وهي الملمح الموضوعي المهيمن والمنظِّم للنص، ومن ثم يؤطَّر للنصِّ باستعارة كبري: الملائكة والشياطين، كما لو كانت ذواتٍ حيةً فاعلةً، وإن ظلت واقفة بنا _ الاستعارة _ علي الحافة بين الشعر والنثر، بين القراءة المجازية وشخصنة الكائن فوق الطبيعي، ويختتم النص بذروة الاشتباك والمساءلة عبر إعادة إنتاج سردية "الشيطان طاووس الملائكة"؛ فالملاك العاجز، المكتفي فحسب بالمراقبة والرصد الرخو، بعكس الشياطين الفاعلة القادرة، يصل إلي حافة الإقدام علي التحول إلي شيطان: "أما الآن وقد أصبحت شابا يافعا، فامنح لي جسدي حتي أسكن أحلامها فلا أتركها حتي ترتوي، لأخلصها من خطيئتها الأولي، أو أني، وعزتك وجلالك، لأغوينهم أجمعين"... هكذا تقدم "الشيطنة" لا بوصفها اختيارا نابعا من فساد النفس، ولكن بوصفها ضرورة اقتضتها طبيعة العالم المفعم بالرغبة والسعي خلف الجمال. النص علي هذا النحو لا يضعنا بإزاء التقابل المألوف: ملائكة_شياطين، بقدر ما يشجعنا علي تفكيك هذا التقابل. ثم يتجلي المزيد من هذا الاشتباك في مواضع عدة يتضايف فيها المقدَّس والأرضي (ولن أقول المدنَّس تماشيا مع رسالة النص)؛ سواء علي مستوي الوحدات السردية: "نادية" الفائرة الفاتنة يحتويها (الشيخ) الأعمي من أجل قذفة أخيرة، ولا تجد روح (عليّ)، رسول الفتنة الأعظم في النوفيللا مكانا أفضل من (الدير) لتباغت فيه مارسا وتوقظ شهوتها النائمة أو المتناومة، ويتحول (سمير / سميرة وهدان) إلي مِثْلِيّ تغترب روحه عن جسده لأن (الولي) مدَّ يديه إلي رحم أمه فبدل جسده ليكون ذكرا وإن ظلت روحه روح أنثي. وكذلك علي مستوي اللغة كملفوظ دالٍّ، كما في تركيب مثل "سعفة الوهج" (يقصد وهج النشوة) الذي يتكرر أكثر من مرة، ولنتذكر ارتباط السعف والنخيل بعامة بالطقوس والمفاهيم الدينية في الشرق الأوسط علي وجه الخصوص. إن النوفيللا تخوض مغامرة أخري، فلسفية هذه المرة، حين تفتحنا علي أفق التساؤل القديم المتجدد حول الإرادة والخلق؛ فالولد البدين، الذي يسرد الراوي _ في بعض الأحيان _ من منظوره، خالق بمعني من المعاني: يكتب، ويرسم، ويحفر وجوها علي الطين، ويعطي لعالمه حياة ومصائر: "ظل يحفر الوجوه علي حوائط الطين، ثم يتحدث إليها. بعد أن يعجب بها الله يمنحها أرواحا ملونة، لكنه لا يمنحها مصائر أخري غير تلك التي حفرها في لوح مسطور"... علي من يا تري يعود الضمير في "حفرها"؟! وكلما اقتربنا من نهاية النوفيللا، اطردت التساؤلات الوجودية الملحاحة علي لسان ملاك "نادية" الحائر حول الإرادة الإلهية والحكمة الكامنة في حركة العالم علي النحو الذي يتحرك به. ورغم عنونة النوفيللا بدال مكاني محدد (شارع بسادة) تدور كل الأحداث في أجوائه، فإن الراوي يحفِّز القراءة الرمزية المتجاوزة لمحدودية الأماكن نحو الإنساني العام حين يقول عن بيت الفخراني الذي يعيش فيه الولد البدين، صاحب الرؤية في النوفيللا، إنه "يتربع علي ناصية الدنيا؛ فيضع ساقا في الدرب الجديد وأخري في شارع بسادة"، وهو ما يتسق مع الطابع الوجودي لتساؤلات النوفيللا. وكعادته ينقلنا الوكيل إلي عالمه الفاتن هذا عبر لغة سرد خاصة، تهتك رصانة اللغة وتعاليها دون أن تحطم تواصليتها: "يا الله..نادية جميلة وبريئة إلي هذا الحد حتي لا تفكِّر سوي في الشيطان وعمايله السوده"، "انظر عجائب الأقدار يا جدع. فأنا ما طلعت السطوح إلا لأشوف المهرة التي تسمع صهيلها جدتي في الفجر". غير أن الأجدر بالالتفات هو (التأشيرية) العالية في لغة السرد، ذلك الحضور المكثف للدوال التي تحيل علي الزمان والمكان (هنا والآن) حاضرين كأننا علي خشبة مسرح يسيطر عليها مخرج مسرحي مهيمن، كما بدا _ مثلا _ في استهلال النص الأقرب إلي "نص مرافق" في مسرحية: "نحن في مساء الجمعة، في الثامنة والنصف، وبالتحديد في تلك اللحظة التي يصدق فيها الشيخ عبد الباسط، سنسمع بضع دقات لساعة الجامعة، ثم يعلن المذيع موعد نشرة الأخبار"، و "الآن تقول لحسونة: إن يوم السوق هذا يوم خير فعلا"... لا شك أن تلك خصيصة أسلوبية مائزة تضع لبنة في حائط التفرد الأسلوبي، لكنها من الناحية الوظيفية تسهم في مزيد من الاستحضار الحميم للقراء، واستلهام ميراث الحلقات الحكائية الشفاهية. هل أشتط في التأويل حين أذكركم بأن (المسرح) كان النوع الأدبي الأول الذي أثار علي نحو راديكالي سؤال القدر والمصير، جدل الإنسان والأرباب، أحد أسئلة النوفيللا؟! أو حين أقول إن الكاتب / المخرج المسرحي أراد أن يهيمن علي عالمه كما لو كان خالقا موازيا؟! بقلم ....

دار اخبار اليوم أطبع المقال http://www.shababonline.org/shabab/pdf/show.php?id=148

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نراجيديا أسمهان

شارع بسادة

كان محتاجا لمن يسكب قهوته